** فى رحاب سيدنا السيد ***
..يا عشاق النبى صلوا على جماله ...
" قصة حياة فنان الشعب سيد درويش " ( الحلقة الخامسة )
** الرحيل الى المجهول ...رحلته الآولى **
حمل سيد درويش ما تيسر له من متاع قليل متوكلا على الله الرزاق الكريم تاركاً خلفه أمه وزوجته الحامل و التى تصادف أن تلد ولده الآول " محمد البحر " يوم سفره وتاركاً وطنه مصر ، وها هو يتجه بصحبة الآخوين أمين وسليم عطا الله الى بلاد الشام وكان ذلك كله فى العام 1909 وهو أبن السابعة عشر من العمر يسافر بجيوب خاوية وبعقل يشع أبداعا و فناً .
عندما وطأت أقدام سيد درويش الشام لفت أنتباهه أن اللغة الشامية وهى لغة لطيفة على الآذن و هى السائدة ولامجال للغة المصرية العامية التى كان يتعامل بها ، ولكن بكل الآحوال كان لا بأس بذلك فمصر كانت عامرة بأهل الشام الذين جائوا إليها واستوطنوها وأصبحوا جزءاً من نسيج شعب مصر ، لكن عندما تكون فى بلاد الشام لن يكون مزاج شعبها هو ذاته مزاج الشعب المصرى ولابد أن يكون الآداء الذى أعتاده سيد درويش يتلائم فى هذه اللحظة مع مزاج الشوام فى بلادهم وهكذا كانت تلك هى اولى العقبات التى واجهها بطلنا فى رحلته الاولى ، اما العقبة الثانية فهى اكتشافه ان الاخوين امين وسليم عطا الله لم يكونا على الآستعداد الآمثل لآفتتاح مسرح خاص بهما يقدم من خلاله سيد درويش ألحانه وأعماله ولكن الفرقة كانت عبارة عن فرقة جوالة تجوب البلدان وليس مسرح ثابت فى مكان واحد يأتى إليه الجمهور للمشاهدة و الآستماع الى ما يتم تقديمه من أعمال وألحان ، وكانت ثالثة المعوقات والتى أطاحت بحلم سيد درويش والتى لايمكن تداركها وهى الرحلة الفنية التى تصادف زمنها مع تواجد سيد درويش بالشام لآهم شخصية فنية فى هذا الزمان صاحب الصوت الفذ وأحد أهم مؤسسين المسرح الغنائى وعميده الشيخ سلامة حجازى والذى كان يعنى وجوده بالشام الكساد التام ليس لسيد درويش فحسب ولكن لآى موسيقى أو مطرب أو ملحن أخر ، فصيت و شهرة الشيخ سلامة حجازى كان لايعلوا عليه أى صيت و أى شهرة أخرى وتكون المقارنة ظالمة بين شاب فى السابعة عشر من عمره مع عملاق كبير بحجم سلامة حجازى .
وهكذا كانت البدايات لهذه الرحلة الآولى لسيد درويش غير موفقة وظالمة بالنسبة له الآمر الذى أشعره بالضيق و الآحباط الكبير ، وأخيراً أستقر سيد درويش من أجل لقمة العيش أن يعمل فى التمثيل بأحد الفرق المسرحية ولم يقدم ألحان أو يقوم بالغناء ، وعلى الرغم من قسوة هذا الموقف عليه إلا أنه أستفاد أفادة كبيرة فيما بعد عندما قدم بعد ذلك بسنوات أعماله المسرحية الغنائية والتى كانت بمثابة خلق جديد للمسرح الغنائى المصرى والتى جائت مطابقة تماماً للعمل الآوبرالى وجمعت بين طياتها اللحن والغناء و الرواية و الرقص و التمثيل ولكنها بروح مصرية صرف ومن أمثالها وأكثرها شهرة " أوبريت العشرة الطيبة " وأوبريت شهر زاد " ، وجدير بالذكر هنا أن سيد درويش على قصر عمره إلا أنه قدم ما يقارب من خمسة وعشرون أوبريت على عدد من المسارح من فرقة جورج أبيض الى منيرة المهدية وعلى الكسار و نجيب الريحانى و أولاد عكاشة ، ولكن للآسف الشديد لم يحفظ لنا التاريخ منها إلا بعض الآعمال فقط وربما كان أكثرها تداولاً هى " العشرة الطيبة وشهرزاد " وسنلقى على حضراتكم الضوء على هذه الآعمال بالتفصيل تباعاً مع مجريات الآحداث فى قصة حياة هذا العبقرى سيد درويش ، وقد يظن البعض أننا قد نبالغ بعض الشيىء فى توصيفنا لشخصية سيد درويش الفنية عندما نصفه بعبقرى الآمة ولكن فى الواقع و الحقيقة نحن بكل ما نذكره عن هذا الرجل لا نوفيه حقه ودعونى أشرح لحضراتكم على سبيل المثال معنى أن يقدم رجل عمل مسرحى غنائى ، فالعمل المسرحى الغنائى لم يكتب ولم يتم تقديمة مفصل كما نشاهده فى الآوبريت ولكنه يقدم كرواية مثال رواية العشرة الطيبة للكاتب الكبير محمود بك تيمور وهنا يتلقفها العملاق المبدع بديع خيرى ويحول الرواية الى أزجال منظومة فى شكل عدد من الآغانى المترابطة ببعضها البعض ثم يقدمها الى الملحن سيد درويش والذى يقوم بتلحين هذه الآزجال ويضعها فى قوالب غنائية مع تقسيم الآدوار وقد يصل تلحين عمل الآوبريت الواحد الى ثلاثين شكل غنائى وتقدم من خلال أربعة أو ثلاثة فصول طويلة تبدأ بالغناء و تنتهى بالغناء ويتضمنها القليل جدا من الكلام الغير ملحن لتوضيح المواقف فقط ، إذاً نحن أمام عملية ليست بالسهلة أبدا والشاقة جداً و التى تحتاج الى ذهن صاف ومرتب وعقلية واعية لاتخلط ولاتكرر اللحن مرتين فى العمل الواحد ، وهذا ما أبدعه سيد درويش بأقتدار وليس هذا فحسب ولكنه قدمه بلغة مصرية تتناسب مع الواقع المصرى والحياة التى يعيشها الناس وبعيداً عن الشكل الآوربى صاحب الطبقات الصوتية المتعددة * (1) .
...وهكذا كتب الفشل لرحلة سيد درويش الآولى والتى أستغرقت عشرة شهور كاملة ، وعلى الرغم من ذلك فقد أستفاد سيد درويش منها أنه أتقن وتعلم فن التمثيل والذى كما ذكرنا أفادة بعد ذلك كثيراً فى التلحين للفرق المسرحية ، وعلى الرغم من فشل هذه الرحلة إلا أن سيد درويش قد تعرف من خلالها على شخصية عظيمة فى عالم فن الموسيقى هو الآستاذ الملحن الكبير الآستاذ عثمان الموصلى والذى أخذ عليه من تعلم فن الموشحات *** ( 2 ) ما أستطاع معه تجميع أجرة العودة الى مصر فى مسقط رأسة بالآسكندرية ليبدأ رحلة كفاحة من جديد . ويجب الآشارة هنا الى أن عميد المسرح المصرى المرحوم زكى طليمات وقد كأن من أصدقاء الشيخ سيد بل أنهما أشتركا فى عدة أعمال سوياً قد سأله ذات مرة بشأن رحلته الآولى الى الشام ( سوريا ولبنان ) وماذا أفاد من هذه الرحلة فأجاب التواشيح و الضروب الموسيقية القديمة ثم أناشيد الكنائس
- وأيه هى الآناشيد دى ؟
- موسيقى وألحان ..ألله ... إنها الموسيقى التى تعبر عن أرفع الاحاسيس البشرية ..أنها الآوبرا
***سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة ***
وهكذا عاد سيد درويش الى مصر بعد أن كتب الفشل لرحلته الآولى بالشام ليعاود طريق الكفاح وحده فى مصر وهو الذى أصبح مسئولاً الآن أكثر من أى وقت أخر عن عائلته و التى زاد عدد أفرادها فرداً جديداً هو أبنه محمد الوليد الصغير وزوجته وأمه .
لم يجد سيد درويش بداً من أن يبدأ من جديد ويبحث عن أى عمل يرتزق منه ليعول أسرته الصغيره فعاد للعمل فى المقاهى حيث عمل بمقهى ( شيبان ) بشارع التتويج بجوار حلقة السمك القديمة ويذكر هنا أن الشيخ سلامة حجازى توجه ذات ليلة الى هذه المقهى متخفياً فأستمع لغناء سيد درويش ولبعض من ألحانه فأعجب بها كثيرا وقال له مشجعاً
- أحسنت يا أبنى أحسنت فيك حاجه جديدة حلوة والآيام الجاية محتاجه الى زيك من المتنورين الشجعان
- الله يكرمك يا عمنا أحنا كنا بنسمعوك وأحنا فى الشام من بلد للتانية
- أنت كنت فى الشام يا شيخ سيد ؟
- أيوه يا عمنا كنت فى الشام وقت ما كنت بتقدم شغلك للسميعة والله أحنا كنا بنتعلم منك كتير
- يا شيخ سيد ياريتك كنت قابلتنى هناك لكن ملحوقة يا أبنى ان شاء الله ربنا يجمع البعيد
وأنصرف الشيخ سلامة حجازى بعد أن جددت كلماته الروح مرة أخرى فى قلب وعقل الشيخ الصغير
مرة أخرى أنتقل سيد درويش بعد ذلك للعمل فى قهوة بجهة كرموز ثم الى مقهى أخر بمحرم بك ( مقهى الآسماعيلية ) وظل يعمل على هذا المنوال قرابة العامين وعندما أشتدت أزمة الكساد وحالت بينه وبين أن يجد عملاً فأشتغل كاتباً بمحل لتجارة الآثاث كان ملكاً لصهره ولكنه لم يستمر فى هذا العمل أكثر من أربعة أشهر حتى عاوده الحنين الى فنه مرة أخرى فأشتغل فى بار ( كوستى ) بشارع أنسطاس وعندما علم صهره بأنه يعمل ببار وانه عاد للغناء وكان صهره رجلاً رجعياً فهدده بأن يطلق أخته وأن يدخل سيد درويش البيت إلا إذا أعتزل الغناء نهائياً ، وخشى سيد درويش على شقيقته الطلاق وأن يحرم منها نهائياً فرضخ الى أوامر صهره مرغماً وهو حانق عليه الى أن حدثت معه المعجزة للمرة الثانية والتى غيرت حياته وأخرجت أبداعه للعالم كله فماذا حدث ؟؟؟؟؟؟؟
بأذن الله تعالى نستكمل مع حضراتكم هذه القصة المثيرة وأبتدأ من الحلقة السادسة سنبدأ فى تقديم أعظم ما قدمة سيد درويش وكان له أكبر الآثر فى تشكيل وجدان جديد للموسيقى فى مصر والعالم الشرقى كله .
** المصطلحات **
1/ الطبقات الصوتية ( الطبقات الصوتية هى درجات تردد الصوت البشرى عند الغناء وقد صنفها الخبراء الى أقسام متعددة وكلما كان تردد موجة الصوت أكثر حدة و اعلى طبقة تكون افضل وطبقات النساء " السوبرانو " عادة أعلى طبقة من الرجال )
وأصوات النساء تنقسم الى سوبرانو ، ميزو سوبرانو ، كونترالتو أما طبقات الرجال فهى كاونترتينور ، تينور ، باريتون ، باس باريتون ، باس
2/ الموشحات ...أصل الموشح الآندلس وهو فن شعرى مستحدث يختلف عن الشعر الغنائى العربى بألتزامه بقواعد معينة وبأستعماله اللغة الدارجة أو اللغة الآعجمية فى خرجته ثم بأتصاله القوى بالغناء ..." قدم سيد درويش حوالى أربعون موشحاً أشهرها بالنسبة لنا موشح " يا شادى الآلحان أسمعنا رنات العيدان يا لا لى أه يا للى وهى من كلماته وألحانه ..
( كتب / مصطفى ابراهيم طلعت )
 |
| درويش |
شكرا لك .. الى اللقاء
*
*
ليست هناك تعليقات: